مهجورة اليوم بعد أن نافست فاس والقيروان: مدينة «وادان» الموريتانية الحاضرة المنسية التي تستغيث

عرفت منطقة الصحراء الكبرى حضارات في حقب مختلفة نتج عنها وجود مدن تاريخية تدل على عظمة هذه الحضارات منها على سبيل المثال لا الحصر المدن الأثرية الموريتانية وهي أوداغست، وكمبي صالح، وولاته، وتشيت ووادان.
وتتصدر مدينة وادان قائمة المدن القديمة المصنفة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو وضمن المدن التاريخية والأثرية المهددة بالإنقراض.
مهرجان ومعارض
خلال أسابيع قليلة ستستضيف مدينة وادان التاريخية المهرجان السنوي للمدن القديمة بحضور الآلاف من رجال العلم والثقافة وعدد كبير المختصين في الآثار والتاريخ.
وتشمل نشاطات هذا المهرجان الكبير محاضرات عن تاريخ وثقافة المدينة والتحولات التي شهدتها، ومعارض الصناعات التقليدية، وجلسات الشعر الشعبي، ومسابقات الفروسية والنسيج اليدوي والحكايات القديمة، وعروض اللباس التقليدي والعادات والتقاليد الخاصة بالأفراح الشعبية، إلى جانب مسابقات في تلاوة القرآن والسيرة النبوية، والرماية والكرة الحديدية وسباقات للإبل والفروسية.
وبمناسبة المهرجان، تستضيف ساحات وشوارع وطرقات وادان العبقة بأريج الأصالة والعراقة، أسواقا ومعارض تجارية وسياحية متنوعة، حيث يعرض الصناع التقليديون الموريتانيون المبدعون التحف الفنية والأثرية، وتنتعش بهذه المناسبة تجارة الخيام والأغطية والقماش والعطور.
موقع وتاريخ
تقع مدينة وادان شمال شرق موريتانيا على بعد 93 كيلو مترا شمال شرق مدينة شنقيط، وتأسست عام 536 هجرية، حيث تحولت في ظرف سنوات قليلة إلى نقطة لتلاقي القوافل والتجارة خلال القرن الحادي عشر الميلادي.
وتنقسم حاليا إلى قسمين، حديث مأهول بالسكان وتقع فيه المباني الإدارية، وآخر قديم يسمى المدينة القديمة والتي يعود تأسيسها إلى القرن السادس الهجري( 536هـ 1142م) .
وتقول جل الروايات التاريخية ان أصل كلمة وادان – رغم أنها تلفظ عموما «ودان»- هو أن فيها: واد من العلم وواد من التمر.
مؤسسون وألواح ثلاثة
تعود نشأة المدينة، حسب المصادر الشفهية، إلى ثلاثة رجال صالحين كانوا يبحثون عن مكان مناسب للتقري والإقامة فوجدوا قدرًا مرمية في سفح الجبل المطل على المدينة، واتفقوا على أداء فريضة الحج أولا على أن يستقروا هناك، نظرًا للموقع الاستراتيجي للجبل والذي يصلح لبناء رباط كانوا قد اتفقوا على تأسيسه بعد عودتهم من الحج.
وقد اختار الحجاج عين المكان حسب الرواية المتواترة بعد استخارة قاموا بها وبعد دفن ثلاثة ألواح في كل من مواقع أطار وشنقيط ووادان ثم توجهوا إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج وبعد عودتهم عام 536هـ وجدوا اللوح المدفون في شنقيط قد غطته الرمال، والذي في أطار جرفته السيول، بينما بقي الذي في وادان ثابتا في مكانه فباركوا موضع وادان وشرعوا في تأسيس المدينة وأول عمل قاموا به كان بناء المسجد ثم المؤاخاة بين سكان القرى المتنافرة والمتناثرة في المنطقة.
أصل التسمية
للتعريف بالأصل اللغوي لتسمية المدينة بـ «وادان» وهل هي مسماة على حواضر أخرى تحمل الاسم نفسه أم ان اسمها مرتجل لها، يقول الطالب أحمد ولد اطوير الجنة الباحث في المعهد الموريتاني للبحث العلمي «اختلف في لفظ وادان هل هو بالإفراد أو بالتثنية فإن كان بالإفراد فقد أورد ياقوت الحموي في معجم البلدان ما نصه (ودان بالفتح كأنه فعلان من الود وهو المحبة ثلاثة مواضع أحدها بين مكة والمدينة، وودان أيضا مدينة بأفريقيا افتتحها عقبة بن عامر سنة 46هـ أيام الخليفة معاوية وينسب إليها أبو الحسن علي بن أبي إسحاق الوداني صاحب الديوان في صقلية).
وقال البكري (ودان مدينة في جنوبي أفريقيا بينها وبين زويلة عشرة أيام من جهة أفريقيا وبينها وبين مدينة تاجرفت ثلاثة أيام والطريق من طرابلس إلى وادان يسير في بلاد هوارة نحو الجنوب في بيوت من شعر وهناك قرى ومنازل إلى قصر ابن ميمون من عمل طرابلس ثم تسير ثلاثة أيام إلى صنم من حجارة مبني على ربوة يسمى كرزة ومن حواليه سكان من قبائل البربر يقدمون له القرابين ويستسقون به إلى اليوم ومنه إلى ودان ثلاثة أيام)».
عقبة الفاتح الكبير في ودان
بعث عمرو بن العاص إلى وادان بسر بن أبي أرطأة وهو محاصر لطرابلس فافتتحها في سنة 32 ثم نقضوا عهدهم ومنعوا ما كان قد فرضه بسر عليهم فخرج عقبة بن نافع بعد معاوية ابن حديج إلى المغرب في سنة 46هـ ومعه بسر بن أبي أرطاة وشريك بن سحيم حتى نزل بغدامس من سرت فخلف عقبة جيشه هناك واستخلف عليهم زهير بن قيس البلوي ثم سار بنفسه في أربعمئة فارس وأربعمئة بعير بثمنمئة قربة ماء حتى قدم وادان فافتتحها وأخذ ملكها فجدع أنفه فقال لم فعلت هذا وقد عاهدت المسلمين، فقال له عقبة: أدبا لك إذا مسست أنفك ذكرت فلم تحارب العرب واستخرج منها ما كان بسر فرض عليه وهو ثلثمئة وستون رأسا.
العلم واداني والتمر فزاني
يقول العلامة الموريتاني الطالب احمد بن اطوير الجنة في رحلته «ومن أغرب غرائب الزمان ما أخبرنا به خواص طرابلس، وعلماؤها، وأئمة جوامعها، وعوامها عن وادان؛ وهو أنهم لم يزالوا يسمعون، خلفا عن سلف، قديما وحديثا: «العلم واداني والتمر فزاني …». فتأملت في قلبي من أين طار علم وادان إلى طرابلس، مع بعد الشقة جدا، ففهمت أن السبب في ذلك أن وادان، في زمن قديم، العلم فيها كثير جدا، والعلماء فيها كثيرون جدا، حتى إنك لتجد أربعين دارا متوالية، في كل واحدة منها عالم، فكيف بعالمين، أو ثلاثة بينهم دار وداران، ونحو ذلك، ومن أجل ذلك أصل اشتقاق وادان: تثنية وادٍ من العلم ووادِ من النخيل».
ويسوق العلامة الأدلة على قدم الحضارة في وادان فيقول «لا تمر بمكان إلا ورأيت فيه خزف القدور مكسرة، وذلك دال على أن ذلك كان موضع عمارة». ويتابع قائلا «تمبكت وطرابلس، الطريق بينهما مسبولة من أجل التجارة بالعبيد والذهب، لأن تمبكت هي فَمُ السودان، هذا كله حدثنا به الأوائل من أهل وادان، وغيرهم، ومن أجل ذلك طارت هذه المقالة المتقدمة إلى طرابلس».
ويضيف «وأما نقل أهل وادان خلفا عن سلف، أن أصل سور وادان العظيم لتأمين المدينة من قطاع الطرق وغزاة الصحاري، بدأ الحاج عثمان مؤسس وادان منذ أيام التأسيس الأولى، في تشييد سور حول المدينة في عام 540هـ، واستمر العمل فيه إلى غاية 547هـ».
ويعتبر هذا السور ضروريا لأمان المدينة، لأن مدينة وادان تقع في طريق القوافل، في صرة الصحراء الكبرى؛ مما يوفر لها وضعًا خاصًا، من حيث الغنى والازدهار الاقتصادي، الأمر الذي يجعلها محط طمع القبائل البدوية التي تقع مرابضها ومضاربها حول وادان خصوصًا في الأوقات الصعبة.
وبالفعل تم إنجاز هذا السور، وقد سهَّل ذلك الأمر وضع المدينة في سفح جبل كبير يكاد يلتف حولها، ويحضنها بحنان، كما سهل ذلك الوضع إقامة هذا السور العظيم، حيث كان يتدرج من أعلى الجبل إلى أسفله آخذًا شكلاً دائريًّا. وقد مكن هذا السور أهل المدينة، من المحافظة على حياتهم وممتلكاتهم. ويحكى أن وادان لم تُنهب منذ إنشاء السور، حتى صارت مضربًا للأمثال الشعبية «إش أعليك يا وادان من نفير آخر الليل» ومعنى ذلك «لا تهمك ياودان الغارات آخر الليل فأنت آمنة»، وذلك لما يوفره هذا السور من حماية للمدينة وأهلها من الأعداء أيًا كانوا.
العلو والحصانة
يبلغ سمك حائط السور مترًا ونصف المتر، ويبلغ ارتفاعه أربعة أمتار في الأماكن البعيدة عن البوابات، بينما يصل ارتفاع السور وسمكه عند البوابات إلى الضعف، ومواد البناء التي استخدمت في بنائه هي الحجارة والطين ومواد أخرى استقدمت من فاس والقيروان.
ولهذا السور أربع بوابات، كل واحدة منها في جهة من الجهات أضخمها الشرقية وتدعى «فم المبروك»، وكان لتلك البوابات قديما حراس يعملون طوال اليوم ولهم زي يميزهم، يتم تدريبهم وانتقاؤهم من بين الأقوياء، وهم فرق على رأس كل فرقة قائد، كما لكل باب طبل خاص، يقرع عددًا معينًا من المرات، إيذانًا بفتحه أو إغلاقه.
وهذه البوابات موزعة من حيث الأهمية، إذ لكل واحدة منها قيمة خاصة وغاية تقوم بها، ففي الوقت الذي تمثل فيه بوابة «فم المبروك» مدخلاً رئيسيا للقوافل القادمة من المشرق من مصر والحجاز وتونس والسودان والشام ومن الجنوب الشرقي من مالي، تقابلها البوابة بوابة أخرى من جهة الغرب، أصغر حجمًا، تدعى «فم القصبة»، مخصصة للقوافل القادمة من نهر المرابطين، وتُدْعى تلك القوافل «القارب» وأما البوابتان الجنوبية والشمالية فهما لدخول وخروج الحيوانات وأصحاب المشاغل من سكان المدينة.
المكانة العلمية والاقتصادية
وحول دور «وادان» الاقتصادي يقول الدكتور محمد الأمين ولد كتّاب الرئيس السابق لجامعة نواكشوط «كان لوادان دور اقتصادي مهم وشكلت ميناء صحراويا وبؤرة تلاق بين القوافل القادمة من الشمال الأفريقي، وتلك القادمة من منطقة الساحل فكانت مركز تبادل تجاري وذاع صيتها مما أثار اهتمام الأوروبيين فقدم إليها البرتغاليون سنة1484 وأسسوا مركزا تجاريا على بعد عدة كيلومترات منها ومكثوا سبع سنوات».
وازدهرت مدينة وادان خلال القرنين الهجريين الأول والثاني من تأسيسها كسائر المدن التاريخية في بداية أمرها لوجود العلماء فيها وانتظام القوافل القادمة إليها والمنطلقة منها.
العقل والعلم ودانيان
فاقت شهرة وادان نظيراتها لدرجة سريان الأمثال الشعبية فيها، حيث يقول المثل الليبي الدارج «التمر فزاني (منطقة في ليبيا) والعقل والعلم واداني» ولا يعتبر هذا المثل من باب المبالغات والتزود إذ إن الروايات التاريخية الموثوقة تقول ضمن ما تقول «إن طالب العلم بوادان يجلس في الطريق لتلقي العلم على يد أول خارج من المسجد بعد الصلاة» كما يتعضد هذا المثل، ويزداد ترسيخًا إذا علمنا أن في مدينة وادان شارعًا لا يزال معروفًا يقال له «شارع الأربعين عالما» لكثرة العلماء فيه.
فقه وكرم وتكافل
انتشر في هذه البلاد المذهب المالكي كسائر بلاد المغرب والأندلس ودرست المدونة ورسالة ابن أبي زيد القيرواني ومختصر ابن بزيزة والتوضيح للشيخ خليل وغيرهم في المحاظر الموريتانية «المدارس التقليدية»ثم دخل مختصر خليل هذه البلاد عن طريق الوادانيين الذين تلقوه عن أبناء عمومتهم من الأقيتيين أعلام تمبكتو وقد وضع عليه الودانيون أقدم شرح له في البلاد وهو «موهوب الجليل» شرح مختصر الشيخ خليل لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الحاجي الواداني.
وتمتلئ كتب التاريخ ـ الموريتاني والمغربي ـ ومخطوطاته بالحكايات عن كرم وأصالة أهل وادان ونبلهم ، فهم أهل الخير والعلم.
وكان أهل وادان يتبعون نظامًا خاصًا في كل شيء، من ذلك أنهم يفتحون في كل حي دارًا للضيافة يتم الإشراف عليها بالتناوب، وقد بلغ أهل المدينة حدًّا لا يوصف من التكافل الاجتماعي، إذ يكفي أحدهم لبناء دار أن يفكر فيها فيقوم الكل بالمساهمة فيها حتى تقام.
من العمران إلى البلى
تحولت وادان إلى أطلال بالية بعد انتشار وسائل المواصلات الحديثة كالسفن والطائرات والسيارات بدل الجمال، وأخذ سكان المدينة ينظرون إليها كسجن رهيب.
وانضافت هذه العوامل لعامل التصحُّر الذي التهم كل المناطق الرعوية المحيطة بالمدينة تقريبا وهجرة العلماء ثم جاءت فتنة السعديين وما أحدثته من خراب في البلاد والعباد ثم حصلت الفتنة الكبرى بين قبيلتي «كنتة» و»إدوالحاج» التي دامت زهاء أربعين سنة وأتت على الأخضر واليابس وانتشرت في جميع أنحاء البلاد وبعد هذه الفتنة هاجر الكثير من علماء المدينة وغيرهم وضاعت المكتبات.
ويقول الدكتور محمد الأمين ولد كتّاب «إن مدينة «وادان» «شهدت بعد ذلك تقهقرا لأن التجارة تحولت إلى المناطق الجنوبية والسواحل الأطلسية ولم تعد القوافل تمر عليها بالكثافة نفسها، ثم جاء الاستعمار، فتراجعت « المحاضر» وهي المدارس التقليدية الموريتانية وتفرق عنها بعض علمائها وهاجروا إلى أماكن أخرى كما هجرها العديد من سكانها وبعضهم استقر خارج موريتانيا في السنغال وفي مدينة تمبكتو بأرض مالي، ثم جاءت «نكبة» الاستعمار الفرنسي فقطع المدينة عن جذورها لأنها كانت على تواصل وتماس مع الشمال الأفريقي ومع المغرب والجزائر بالذات، ثم أجهزت عليها جائحة الجفاف الذي ضرب البلاد في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي وقضت على الأخضر واليابس، فاضطر الكثير من سكان «وادان» للنزوح نحو مدن موريتانية أخرى، لكن البعض من هؤلاء السكان ما زالوا يتشبثون بالبقاء فيها، وقد بدأت مؤخرا تستعيد شيئا من عافيتها ونأمل أن يستمر ذلك».
آفاق المستقبل
اهتمت اليونسكو بمدينة وادان ضمن المدن التاريخية الموريتانية حيث سجلتها عام 1977 ضمن التراث الإنساني.
واهتمت الحكومة الموريتانية بهذه المدن حيث أسست صندوقا بميزانية 2.6 مليون يورو لترقية مدن شنقيط ووادان وتيشيت وولاتة، وأعلنت عن تنظيم مهرجان سنوي دوري لإحياء هذه المدن يقام في ذكرى المولد النبوي الشريف من كل عام.
هذه هي وادان الحاضرة العربية الإسلامية المنسية التي تستغيث وتستدعي الأيدي المحسنة لتعميرها وإحيائها والمحافظة على تراثها وتثبيت سكانها.
خطط وبرامج
وتعكف وزارة الثقافة الموريتانية، حسب تأكيدات مسؤوليها، على تصور وتحديد الطرق والإجراءات والحيثيات التي يمكن استجماعها لتطوير مختلف أوجه الحياة في المدينة القديمة، والارتقاء بالمستوى المعيشي لسكانها، وتحويلها إلى أدوات تقدم، وعوامل إنماء وطني ناجعة.
وتعتمد هذه الخطط على استثمار الإمكانات المتاحة في مجالات منها الفنون المعمارية والزخرفية، والمخطوطات والمكتبات، والمحاضر والتأهيل المهني، والصناعة التقليدية، وتنمية وتفعيل الفلكلور والثقافة الشعبية، إضافة لتثمين مختلف الأنشطة المدرة للدخل.
ويقول الدكتور محمد الأمين الكتاب الباحث المختص في المدن القديمة «من الضروري بذل الجهود الضرورية من أجل الاستثمار في هذه المجالات من خلال دعم الدولة وتوفير القروض الصغيرة بشروط ميسرة وانخراط الفاعلين الاقتصاديين، وإشراك سكان المدن القديمة أنفسهم بشكل مباشر في تدبير شؤونهم الحياتية، إضافة إلى فك العزلة عنهم، ومساعدتهم في إقامة صناعات محلية لمعالجة منتجاتهم، وصولا إلى خلق قيمة مضافة تعود عليهم بالنفع، وتسهيل تسويق تلك المنتجات محليا ووطنيا ودوليا، كل ذلك من شأنه أن يكفل لهذه المدن تقدما مضطردا وارتقاء متزايدا على مختلف الصعد.
عبدالله مولود
28 – نوفمبر – 2015




