كيف يمكن تحويل مخطوطات وادان إلى مشروع تنموي؟

وادان جوهرة الصحراء الموريتانية التي تختزن بين أدراجها تاريخا حيا ممتدا عبر القرون، هذه المدينة العريقة التي تأسست قبل أكثر من ثمانية قرون تحتفظ بأحد أهم كنوز المعرفة الإنسانية في المنطقة العربية والإفريقية. إنها ليست مجرد أطلال وآثار، بل مكتبة مفتوحة تحوي آلاف المخطوطات النادرة التي تشهد على عظمة الحضارة الإسلامية وإسهاماتها في ركب الحضارة الإنسانية.
تضم وادان ما يقارب ثمانية آلاف مخطوط تغطي جميع فروع المعرفة الإنسانية، من علوم القرآن والحديث إلى الفلك والرياضيات والطب والجغرافيا. بين هذه الكنوز نسخة نادرة من المصحف الشريف مخطوطة على جلد الغزال يعود تاريخها إلى القرن الثامن الهجري، ونسخة من كتاب “مروج الذهب” للمسعودي تعود إلى القرن الرابع الهجري، بالإضافة إلى أقدم مخطوط في غرب إفريقيا. هذه المخطوطات ليست مجرد وثائق تاريخية، بل هي شواهد حية على التواصل الحضاري بين المغرب العربي وبلاد السودان، وعلى التعايش بين مختلف المذاهب والاتجاهات الفكرية.
تتنوع مكتبات وادان بين العامة والخاصة، وتعتبر مكتبة سيد محمد عابدين سيدي من أشهرها، حيث تضم بالإضافة إلى المصحف النادر، مئات المخطوطات في مختلف العلوم. يقول عابدين سيدي وهو أحد حراس هذا التراث: “أحتفظ بمخطوطات المدينة التي ورثناها عن أجدادنا، وهي مخطوطات قديمة نصارع من أجل الحفاظ عليها وتأمينها من التلف أو الضياع”. لكن هذا الكنز الثمين يواجه تحديات جمة تهدد بقاءه، من ظروف حفظ غير ملائمة في صناديق خشبية عتيقة، إلى تأثير العوامل الجوية من رطوبة وحرارة وزحف رمال، مرورا بالإهمال الرسمي ونقص الترميم العلمي، وليس انتهاء بتجارة المخطوطات وهجرة السكان من المدن التاريخية.
لكن الأهالي لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذه التحديات، فهم يحافظون على المخطوطات بتوارثها عبر الأجيال، وإدراك قيمتها التاريخية والعلمية، وفتح المكتبات أمام الزوار، ومقاومة إغراءات بيعها رغم الحاجة المادية. وهنا تبرز فرص ذكية لتحويل هذا التراث إلى مورد اقتصادي يدعم السكان ويحفظ التراث في آن واحد. فمن خلال السياحة الثقافية يمكن تحويل المكتبات إلى متاحف حية، وتنظيم جولات سياحية مصحوبة بشرح مفصل، وإقامة ورش لتعليم الخط العربي ونسخ المخطوطات، والمشاركة في المهرجانات الثقافية مثل مهرجان المدن القديمة الذي أعاد الاعتبار لهذه المدن، وإنتاج مستلزمات الكتابة التقليدية كأحبار وأقلام ورق كهدايا تذكارية.
وفي مدينة شنقيط المجاورة نجح السكان في بعث الروح في مخطوطاتهم بفتح خزائن للتحف المخطوطة وعرض مخطوطات في علم الفلك والرياضيات لجذب السياح، وتحويل هذه الوثائق إلى مصدر دخل من خلال رسوم الدخول. هذا النموذج يمكن تطبيقه في وادان مع التركيز على خصوصية مخطوطاتها. كما يمكن في عصر التكنولوجيا إنشاء موقع إلكتروني يعرض نبذات عن أهم المخطوطات، وإنتاج أفلام وثائقية قصيرة عن كنوز وادان، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي للترويج للمكتبات، والتعاون مع المؤسسات الأكاديمية لجذب الباحثين.
لكن كل هذا لا يكتمل دون حلول علمية لحفظ المخطوطات، من رقمنتها لتقليل الاستخدام المباشر، إلى توفير خزانات مضادة للرطوبة والحرارة، ومعالجة المخطوطات المتضررة، وتسجيل المخطوطات وتصنيفها بدقة، وحمايتها من السرقة والكوارث. وهنا يأتي دور المجتمع المحلي في تنظيم حملات توعوية بأهمية المخطوطات، وتعلم أساسيات حفظها، وتشكيل فرق تطوعية لحماية المكتبات، وتسجيل القصص الشفوية المرتبطة بالمخطوطات. كما أن للجهات الرسمية دورا مهما، حيث قامت الحكومة ببعض الجهود مثل تزويد المكتبات بدواليب ومعدات للحفظ، وتوفير أجهزة تنظيف، ودعم مسيري المكتبات، وتأهيل مختبرات لمعالجة المخطوطات، لكن هذه الجهود تحتاج إلى التوسع وتعزيز الشراكة مع المجتمع المحلي.
النظر إلى المستقبل يفتح آفاقا واسعة لوادان لتصبح مركزا للعلم والثقافة، من خلال إنشاء مركز بحوث للمخطوطات، ومدرسة لتعليم الخطوط القديمة، ومتحف تفاعلي يعرض تاريخ العلم في المنطقة، ومكتبة رقمية توثق المخطوطات وتتيحها للباحثين، وبرنامج زيارات أكاديمية يجذب الباحثين الدوليين. كما يمكن استثمار المهرجانات الثقافية مثل المهرجان السنوي للمدن القديمة الذي أعاد الاعتبار إلى هذه المدن بعد سنوات من العزلة، في عرض نماذج من المخطوطات، وتنظيم معارض مصاحبة، وإقامة ندوات علمية حول المخطوطات، وجذب رعاة للمشاريع الثقافية.
مخطوطات وادان ليست ملكا لأهلها فقط، بل هي إرث إنساني يشهد على عطاء حضاري استثنائي. حمايتها مسؤولية مشتركة بين السكان المحليين كحراس أصليين للتراث، والحكومة كممول ومنظم، والمجتمع الدولي كشريك في الحفاظ على التراث الإنساني، والباحثين كمستفيدين ومنقبين عن المعرفة. بالحفظ الذكي والتسويق المبدع، يمكن تحويل هذه المخطوطات من كنوز معرضة للاندثار إلى موارد تنموية تخلق فرص عمل وتعزز الهوية وتجذب السياحة. الطريق طويل والتحديات كبيرة، لكن تاريخ وادان العريق يشهد أن أهلها قادرون على صون تراثهم وتحويل التحديات إلى فرص، كما حافظوا على هذه الكنوز عبر القرون الماضية. المستقبل يبشر بإمكانيات أكبر إذا تم الجمع بين حكمة الأجداد وتقنيات العصر، لتبقى وادان شاهدا حيا على إسهامات الحضارة الإسلامية في ركب الحضارة الإنسانية.
ع.م




