
في عالم المشاريع، هناك لحظة ولادة تولد فيها الفكرة من رحم الحاجة أو الطموح، ثم تجسد في تصميم دقيق، يراعى فيه كل تفصيل: التكاليف، الفائدة، الزمن، الموارد، وحتى المزاج العام. التصميم، ببساطة، هو مخطط الأمل. لكن بين التصميم والتنفيذ، تقع فجوة عميقة لا يعبرها إلا من كان ذا رؤية وثبات وإرادة.
غير أن لهذه الفجوة حراسا من نوع خاص: “الخبراء الفوريون”، أولئك الذين يتحدثون في الاقتصاد صباحا، وفي الطب مساء، وينتقدون شبكات النقل بعد العشاء، دون أن يكون لأحدهم تجربة في إدارة كشك شاي. هم لا يصممون، ولا ينفذون، ولكنهم يعرفون – حسب زعمهم – أن كل شيء لن ينجح، وأن كل مشروع محكوم عليه بالفشل، ما لم يمر عبر فلاتر آرائهم الشخصية التي لا علاقة لها بالواقع.
ما لا يدركه هؤلاء أن التصميم، مهما بدا خياليا، لا يقاس بعيون الشك ولا يزن بميزان الخوف. تصميم قناة السويس، قبل قرنين، وصف بالحلم المجنون، ومثله برج إيفل، ومطار سنغافورة، وحتى “ميناء نواكشوط” حين طرح أول مرة. ولكن كان هناك من آمن، فصمم، ثم نفذ. أما المشككون، فقد بقوا حيث هم: على الأرصفة، يتجادلون في التفاصيل التي لم يطلب منهم أحد رأيا فيها.
التنفيذ لا يعني الالتزام الأعمى بالتصميم، بل يعني القدرة على التكيف الذكي مع الواقع. فهناك مشاريع لم تنفذ كما صممت بالضبط، ولكنها نجحت لأنها وجدت من يحملها على كتفيه لا على لسانه. فليس كل تعديل فشلا، وليس كل تغيير تخبطا، ما دام الهدف واضحا والنية خالصة.
الفرق الجوهري بين المصمم الحقيقي والمتحدث الفارغ، أن الأول يبدأ من البيانات، والثاني يبدأ من الظنون. الأول يدرس السوق، الموارد، الكفاءة، التمويل، والثاني يردد ما سمعه في مجلس أو قرأه في تغريدة. الأول يسأل: “كيف ننجز؟”، والثاني يسأل: “لماذا نتعب أنفسنا؟”
قيل في هذا: “الخوف من الفشل لا يجب أن يمنعنا من المحاولة، ولكن كثرة المتكلمين قد تمنعنا حتى من التفكير.”
وقيل: “لكل مشروع ألف ناقد قبل أن ينفذ، وخمسة آلاف بعد أن ينجح!”
في النهاية، لا نطلب من الناس أن يصمتوا، ولكن أن يتحدثوا بعلم أو يصغوا بحكمة. فالحوار الصحي حول المشاريع ضروري، والنقد البناء مطلوب، لكن بينه وبين التثبيط خيط رفيع. نحن في أمس الحاجة إلى من يصمم، ومن ينفذ، ومن يدعم، لا إلى جوقة الأصوات التي تغرق الطموح تحت ركام الشكوك.
فلنحسن الإصغاء للخبراء الحقيقيين، ولنمنح الأفكار فرصة أن ترى النور. فكم من حلم تحقق لأنه وجد من يرفض أن يحبط… ولو بكلمة.
ع.م




